الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة "الشمع" لجعفر القاسمي : تونس الأمس واليوم وغدا .. وشكري بلعيد الغائب الحاضر

نشر في  11 ديسمبر 2017  (15:42)

 أضواء خافتة، موسيقى دافئة، أعمدة حديدية منتشرة على الركح وأجساد مبعثرة، تتوغل المعزوفة داخلك ويشدّك الصمت، تجد نفسك منجذب الى شيء مجهول وغامض، تتابع تحركات الأجساد الصامتة .. هل هي ميتة أم تحتضر أم تبحث عن الخلاص؟، تغزوك الأسئلة، تنتفض الأجساد فتهتز معها، تتابع الأحداث دون ملل طيلة ساعة و40 دقيقة، تتداخل الأفكار وتتراقص برأسك، تحاول ايجاد طرف الخيط، لتمسك بزمام الأحداث، لكنك تجد نفسك تبحر في أكثر من معنى ومقصد، ورغم التشويش داخلك تستمع بما تشاهده حدّ الانتشاء،هكذا شعرنا وربما شعر الكثيرون ممن تابعوا مسرحية "الشمع" لجعفر القاسمي أداء صبرة الهميسي ومحمد الجبي وتوفيق العايب وعاصم بالتهامي والصحبي عمر وخالد الفرجاني ووسام البراهمي وأكرم العمدوني ومروان الطرخاني وعبد الرحمان المؤدب، هذه المسرحية التي قدمت للمرة الأولى ضمن فعاليات افتتاح الدورة 19 لأيام قرطاج المسرحية بقاعة الريو بالعاصمة .

وبطريقة ركحية مختلفة تماما عن السائد، وبكثير  من التجديد حاول جعفر القاسمي خلال عمله المسرحي الرابع كمخرج (بوراشكا والفلايك ورق ـ حقائب ـ ريتشارد الثالث) أن يقدم ويطرح عديد القضايا المحورية بالمجتمع التونسي ويروي قصة بسيطة حبلى بالمعاني، بالاعتماد على الجسد اساسا الذي كان نقطة قوة العمل، حيث ساهم اداء الممثلين وأداء بعض العناصر من السيرك في نحت قصته بطريقة فيها من جمالية الصورة الشيء الكثير، دون أن ننسى الدور الكبير الذي لعبته الاضاءة والموسيقى .

الشمع أو الصراع مع الماضي

وتروي "الشمع" قصة عائلة تقطن منزلا آيلا للسقوط كائنا بجانب مقطع مهجور (داموس) لاستغلال الفسفاط، وتعيش العائلة صراعا فيما بينها صراعا مع ماضٍ ولّى ولن يعود، للوهلة الأولى تبحث عن العنوان في احداث المسرحية، لتكتشف أن "الشمع" ماهو الاّ الأعمدة الحديدية المنتشرة على الركح ـ المفهوم العامي للشمع ـ ، هذه الأعمدة التي تحول دون سقوط المنزل وانهياره.

وللاطار المكاني في مسرحية الشمع اهمية حيث نجد 3 أمكنة وهي "الدهاليز" حيث تدفن الجثث والأثار والأسرار وكل ما هو مجهول او ما نرفض صعوده الى السطح سواء برغبة منا او برغبة من الجهات المستفيدة، ثم نجد "المنزل" حيث الشخصيات وصراعها المستمر، اما المكان الثالث فيتمثل في "السقف" المهدد بالسقوط في أي لحظة لولا تماسك "الشمع" ، وفي المسرحية تتسابق الشخصيات الى تسلق الأعمدة للوصول الى السقف دون مراعاة لهشاشته او أنهم قد يتسببون في أي لحظة في انهيار المنزل على سكانه أو انهيار الدولة على شعبها .  

ولاضفاء مسحة من المصداقية حافظ جعفر القاسمي على الأسماء الحقيقية للشخصيات بمسرحيته، كما حاول ايهامنا أن أبطاله بصدد تجسيد مسرحية داخل "الشمع" ليتداخل ماهو واقعي بماهو خيالي، فيحضر الممثل تارة وتعوضه الشخصية المسرحية تارة أخرى، ونلمس وجع الانسان بينهما وحيرته .

في "الشمع" نلمس الألم والفرح والحزن وكل المتناقضات داخلنا، وبالاعتماد على الجسد تتشكل اطوار الحياة من الولادة الى الموت وما يتخلل هذه الرحلة من صراع للبقاء وانتهازية وظلم وكفاح ونضال وثنائية الشرّ والخير، ورغم وفرة عدد الممثلين واعضاء السيرك في المسرحية تشعر انهم جسد واحد تتلاحم اجسادهم وتتباعد وفقا للأحداث، فيلفت انتباهك ادائهم المتميز وتمكنهم من النص وتعجز عن تخيير اداء على اخر حيث لكل شخصية طابعها وميزتها الخاصة  .

أداء متميز وشخصيات حبلى بالمعاني

فصابرة في الشمع هي المرأة بقوتها وضعفها وهي الخصوبة والوطن الجريح المغدور، وهنا نشير الى صابرة الهميسي العائدة الى خشبة المسرح بعد غياب دام 9 سنوات، تمكنت من شدّ الانتباه بأدائها المتميز وحضورها الركحي ولياقتها التي شكلت نقطة قوة الشخصية .

نجد ايضا خالد الفرجاني، الشاب المندفع الذي يحاول اكتشاف الدهاليز والمدافع على الحقوق والحريات، هو ايضا صوت الحق، وهو الذي يقتل غدرا نتيجة نضاله، خالد هو ببساطة الرمز شكري بلعيد ـ أو هكذا رأينا ـ شكري الذي اغتالته يد الغدر لأن صوته كان عاليا فاضحا لتجاوزاتهم، وهنا نشير الى أن شكري بلعيد يحضر ايضا من خلال شخصية "يحيا" الشخصية الحاضرة الغائبة في المسرحية، يحيا الذي تبحث عنه الشخصيات وتحاول فهم مصيره وحقيقة وفاته، ورغم وفاة "يحيا" واغتياله فقد ولد خالد كما سيولد غيره لتستمر رسالة شكري .

ومن الشخصيات التي حافظت على تميز ادائها كما تعودنا عليها، نجد توفيق العايب، أو الجدّ هذه الشخصية المتوفية لكنها تستمر في التأثير على الأجيال، هو العادات والتقاليد والموروث، هو الايديولوجيات الراسخة في مخيلة البعض، هو الفكر البورقيبي والرأسمالي والماركسي والاخواني، هو ببساطة كل ما يلهي الشعب على النظر الى قضاياه الرئيسية وانشغاله بالماضي وتمسكه بايديولوجيات لم تسبب سوى الصراع والفتنة في الوقت الذي تحاول فيه اياد خفية السيطرة على مفاصل الدولة وانهيارها .

عاصم الانتهازي والمستعد للتلون وفق مصالحه او بلغتنا العامية الشخصية البارعة في "قلبان الفيستة" والتأقلم مع كل التغيرات والمستجدات في الساحة السياسية والاجتماعية، اما الصحبي عمر فهو صوت العقل والحكمة، هو المستقبل الذي نحتاجه لنحافظ على بيتنا من الانهيار .

وفي "الشمع" حاول جعفر القاسمي الاستفادة من عناصر السيرك حيث لم يقتصر حضورهم على تقديم لوحات فنية بل ايضا كان لهم اهمية قصوى في تطور الاحداث وتصاعدها فكانوا عبارة عن اطياف تتجول داخل المنزل، في اشارة الى الأيادي الخفية التي تحرك مفاصل الدولة، هم ايضا كل من يريد استنزاف خيرات البلاد وسرقتها في غفلة من الجميع .

تونس الغدّ

رغم السواد والصراعات والانشقاقات خير جعفر  القاسمي في مسرحيته فتح افاق كبيرة وبعث الحياة من خلال انجاب صابرة لابنها في اشارة الى ان تونس "ولاّدة" وان الشعب التونسي لن يسمح للسقف بالسقوط ولن يسمح لتونس بالانهيار .

جمالية الصورة وتناسق اللوحات والاضاءة والتوظيف الموسيقي كلها عوامل ساهمت بشكل كبير ـ اضافة الى الاداء المتميز للممثلين ـ في شدّ انتباه الجمهور الذي تفاعل مع العمل بشكل كبير .

ختاما، نشير الى أن هذا ما تمكنا من فهمه للوهلة الأولى من خلال العرض الأول للشمع في انتظار مشاهدتها من جديد علنا نجد فيها ما عجزنا عن فهمه ..

الى أن نلتقي في أسطر أخرى حول "الشمع" وللحديث بقية  ....

سناء الماجري